سر الكلمة وكلمة الـسـر-عبد الكريم برشيد
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
 أنا الموقع أعلاه

سر الكلمة وكلمة الـسـر

  عبد الكريم برشيد    

يقول مظفر النواب:
( يا قارئ كلماتي بالعرض
وقارئ كلماتي بالطول
لا تبحث عن شيء عندي يدعى المعقول
إنني معترف بجنون كلامي
بالجملة والتفصيل)
وهكذا هم معشر الكتاب دائما، واحد فيهم مجنون جدا، وأخر عاقل أكثر مما يلزم،  وواحد ثالث بينهما، لا هو عاقل تماما، ولا هو مجنون بشكل كامل، وهذا عندي هو أسوأ كل الكتاب، لأنه لا يشقى بالفكر الشاق، ولا ينعم بنعمة الجنون الخلاق   
أما أنا، بين قبائل الكتاب من أكون؟
فهل أنا صاحب فهم ومعرفة، أم صاحب قلب ووجدان؟
هل أنا كاتب عمومي يكتب رسائل الناس؟ أم أنني رسول يحمل للناس رسالة الحياة، ويأتيهم برسالة الوجود ؟
أعترف، بأنني لا أدعي في العلم فلسفة، ولا أزعم في فقه القلب والوجدان علما كبيرا وخطيرا، ولذلك فقد قلت في كتاب ( غابة الإشارات ) الكلمة التالية :
(المعرفة لا أعرفها، والحكمة ما حكمها؟ والعلم لا علم لي به، والفهم يصعب علي فهمه، وإنني ـ مثل كثير من الناس ـ طالب علم وفهم، وذلك في مدرسة الأيام الابتدائية، وقد أكون مازلت في روضها وكتابها وأنا لا أدري )
في مدرسة هذه الحياة إذن، لا وجود لمعلم أكبر من الحياة، ولا لحكيم أكثر حكمة من الأيام، ولا لصانع أكثر مهارة من هذه الطبيعة، ولا لمؤلف أكثر غرابة من القدر، ولا لكتابة أمضى من هذا المكتوب الذي يكتب لنا، أو يكتب علينا، والذي لا يكتب على الأوراق، ولكنه يكتب على الجبين، ولذلك قال الناس ( ما كتب على الجبين لابد أن تراه العين)
نحن الذين نكتب هذه الكتابة، أو نحن الذين تنكتب بنا الكتابة، لنا قصص  كثيرة وطويلة مع صناعة الكتابة، وبحكم تورطي في عوالمها الغريبة والعجيبة والمدهشة، فإنني أملك واحدة من هذه القصص، وقد لا تكون قصتي وحدي، ولذلك فإنني أرويها بلساني الشخصي أولا، وأرويها بلسان كل الكتاب في نفس الوقت، وأبدأ من البداية..

كنا ـ في زمن من الأزمان ـ نكتب بالقلم، وكان ذلك القلم من القصب، أي من نفس ذلك القصب البري والوحشي، والذي كان الراعي يصنع منه نايه ومزماره، وكان الصانع يصنع منه سلاله، وكان الفلاح يسيج به بيته وحقله .
بسيطا في شكله كان ذلك القلم، ولكن وظيفته كانت خطيرة وساحرة ومدهشة، كان يشفي المرضى، ويحضر الغائب، ويقرب البعيد، ويطرد الجن من الأجساد المسكونة، ويعتقل الصور الشاردة، ويستعيد الحالات الغائبة، وينقل حر الأشواق بين العشاق،  ويقبض على الذكريات المنفلتة والهاربة، ويخطط الرسومات ويهندسها، ويلونها، وذلك بألوان نباتية برية، وأخرى مستخلصة من أحمر البيض؛ هكذا رأيت القلم لأول مرة؛ رأيته في يد الفقيه في الكتاب، وفي يد الكاتب العمومي في السوق، وفي يد من يشتغلون مع ( المخزن) ـ الحكومة ـ  في ( بيرو عراب) ـ الإدارة الفرنسية ـ فاحترمته وعشقته، و قدسته، ولحقني منه شيء من الخوف مرة، وشيء من الرهبة مرة أخرى ..
وعرفت لماذا أقسم الله بالقلم، ولماذا أمر نبيه الكريم أن يقرأ، ولماذا ربط العلم بالقلم، وربط القلم بالعلم .
وفي البدء، كان اللوح وحده؛ كان كتابي ومكتبتي وشاشتي التي أنظر إليها، وأتأملها، صباح مساء، و التي لم تكن إلكترونية، كما هي اليوم.
صقيلا كان ذلك اللوح، وصافيا وطاهرا، كالسماء في عز الصيف، و كان ذلك القلم القصبي حاضرا، يملك وحده القدرة على تأثيث كل الفضاءات، وملء كل الفراغات، وتسويد كل البياضات، وكنا نغمسه في الحبر المغربي وفي الدواة، وكنا نغرسه ـ و كأنه السيف أو الرمح أو الخنجر ـ نغرسه عميقا في جراحاتنا النازفة، وكنا نتعجب، في براءة أو في خبث، كيف تكون كتابتنا على اللوح أو على الأوراق البيضاء أو على الجدران العذراء، تكون باللون الأسود، ولا تكون باللون الأحمر، وكيف لا تتخضب أصابعنا الكاتبة بالدم؟
اليوم تغير كل شيء، وأصبح العصر عصر الصورة، ودخلنا عتبة الكتابة بغير الأقلام وبغير المداد وبغير الدواة وبغير اللوح الذي كنا  نكتب عليه صباحا، ونمحوه عشية، ونجعل ما في السطور ينتقل إلى الصدور ..
ذلك المحو إذن، لم يكن محوا (كاملا)، وذلك لأنه كان مسكونا بالحفظ، وكانت ذاكرتنا العذراء والبيضاء دفترنا وكراستنا ومذكرتنا وكتابنا المفتوح على الحياة، في تعددها وتجددها، وفي تلونها، وفي أضوائها وظلالها، وفي تداخل أشكالها وألوانها، ولهذا، فقد كان من الضروري أن يفرض التساؤل التالي نفسه علينا:
ــ إلى أي حد يمكن لهذه الذاكرة أن تستوعب كل شيء، وأن تقبض على عقارب الساعة المجنونة و الحمقاء؟
ــ وهل بإمكانها أن تستوعب الكلمات والعبارات والصور المتلاحقة والحالات المركبة والمشاهدات المتداخلة، والإشاعات المصنعة، والحكايات والمعتقدات والخرافات والاجتهادات والخيالات والشطحات الصبيانية الغريبة والعجيبة؟
يومئذ، كان لابد من الورق، وذلك من أجل تدوين الأفكار الطائرة واعتقالها، ومن أجل مطاردتها  ومصادرتها، والرجوع إليها، وذلك للتواصل بها ـ ومن خلالها ـ  مع المعرفة أولا، ومع الذات ثانيا ، ومع الآخرين ثالثا، ومع الماضي الذي يمضي رابعا، ومع المستقبل الآتي خامسا، ومع كل العالم والكون بعد ذلك، يقول شاعر، هو ذو الرمة لراويته ( أكتب شعري، فالكتاب أحب إلي من الحفظ لأن الأعرابي ينسى الكلمة، وقد سهر في طلبها ليلته فيضع كلمة في وزنها ثم ينشدها الناس والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلاما بكلام ) من كتاب (الحيوان ) للجاحظ .
في أواسط السبعينيات من القرن الماضي، دخلت عصر المكننة، من أبوابه الضيقة طبعا، واشتريت آلة طابعة صغيرة، وأمليت عليها كل كتاباتي وكل مسرحياتي وكل بياناتي وحواراتي التي جاءت بعد ذلك، وقبل ذلك أيضا . لقد رافقتني على امتداد ربع قرن، ولكنها اليوم موضوعة على الرف . إنها مجرد تحفة، تساوي عندي كل أموال الدنيا وكل كنوزها التي لا تقدر بثمن.
كان أول كتاب قرأته هو المصحف الشريف، وتعاملت مع الكلمات فيه بشيء من الخشية والرهبة، وقلت لنفسي، أو قالت لي نفسي، انتبه جيدا، فهذه الكلمات الساحرة والمبهرة هي كلمات الله، وهذه اللغة هي لغة الله، واعتبرت كل الكتب بعد ذلك مقدسة، خصوصا إذا كانت بلغة هذا القرآن، وبذلك فقد تعاملت معها كلها باحترام وتهيب، واعتبرت الكاتب شخصا خارقا، وتمنيت أن أصل يوما إلى درجة هذا الكاتب الغائب الحاضر، وأن أتقن سر الكلمة، وأن أعرف كلمة السر فيها، وأن أصبح من أهلها وصحبها، وأن تكون لي كتب تقرأ في كل البلدان والأزمان..
وأقنعت نفسي بأنه لا يمكنني أن أكتب، إلا بعد أن أتقدم في العمر، وبعد أن تكون لي تجارب في الحياة، وبعد أن أعرف أشياء كثيرة عن الوجود وعن الموجودات، وحتى إذا كتبت، فإنه لا يمكنني أن أنشر محاولاتي إلا بعد أن أرضى عنها، وبعد أن أقارنها بما يكتب شيوخي الكتاب، وبعد أن أراها جديرة بقدسية الكتابة.    
وأخيرا، حدث التحول الأكبر والأخطر في أدوات الكتابة وفي صناعتها، وفي لحظة سريعة جدا، ومن غير أن أدري، وجدت نفسي أدخل عصر الكتابة الضوئية، ووجدتني أتخلى عن الريشة وعن قلم الرصاص، وفي حمى هذا التحول المجنون، أصبحت عبدا من عبيد الشاشة، إنني أجدها أمامي وقت الفطور، وساعة الغذاء والعشاء، وفي الكشك الإلكتروني للبنك وعلى مكتبي أيضا، وإنني، وبمناسبة هذه القفزة الكبيرة والخطيرة، أتساءل :
ــ أهو تطور أم تقهقر، أن أنتقل من الكتابة بالقلم القصبي إلى قلم الرصاص، ومنه إلى الريشة والمداد و إلى القلم ذي الحبر الجاف وإلى آلة الرقن وضجيجها، وأن أصل أخيرا إلى الكتابة بالضوء؟
ــ وهذا الضوء الذي في الشاشات، هل يمكن أن يخفي ظلمة الجهل والأمية يوما؟
ــ وهذه المعلومات التي فيها، والتي لا يعدها العد، ولا يحدها الحد، هل يصح أن نسميها علما؟
جوابا على هذه التساؤلات، وعلى كل ما يمكن أن يتفرع عنها، أقول.. لست أدري .. ويكفي أن أجيب على التساؤلين المعلقين في رأس هذا النفس من الكتابة
التساؤل الأول هو: ما هو سر الكتابة؟
وأم الثاني فهو : ما هي كلمة السر في عالم هذه لكتابة؟
وعن سر هذه الكلمة السحرية أقول: الله حده يعلم سرها، أما كلمة السر عندي فهي : الصدق، ثم الصدق، ثم الصدق، ولا شيء إلا الصدق، والكلمة الصادقة هي التي ننطقها ونكتبها كما نتنفس هذا الهواء..



 
  عبد الكريم برشيد (2012-07-27)
Partager

تعليقات:
ذ.عبد الرحيم عوام /المغرب 2012-10-02
الأستاذ الفاضل عبد الكريم برشيد السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته,أحبك في الله وأقدر أدبك وكتاباتك,وقد كان لي الشرف أن تناولني جائزة في القصة القصيرةبإحدى مكتبات فاس أيام كنت طالبا,قرأت لك وسمعت عنك كثيرا ولكني حين جاورتك رأيتك أكبر وأجمل مما قرأت وسمعت,أطال الله في إبداعك أيها الإحتفالي دائما ودائما.
البريد الإلكتروني : abdou_aam@hotmail.com

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

سر الكلمة وكلمة الـسـر-عبد الكريم برشيد

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia